الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات و{مِنْ} للتغليب؛ أو للثقلين {فَانٍ} هالك.
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} أي ذاته عز وجل، والمراد هو سبحانه وتعالى، فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس، وهو مجاز شائع، وقيل: أصله الجهة واستعماله في الذات من باب الكناية وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف، وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ. والظاهر أن الخطاب في ربك للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته، وفي الآية عند المؤولين كلام كثير منه ما سمعت، ومنه ما قيل: الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود، أي ويبقى ما يقصد به ربك عز وجل من الأعمال، وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه، وأقرب منه ما قيل: وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز وجل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه، ومرجع ذلك العمل الصالح أيضاً والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء؛ أو لأنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان} [الرحمن: 26] وقيل: وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حدّ ذاته فإنه فان في كل وقت، وقيل: المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعاطى، والإضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حدّ ذاته أي إذا اعتبر مستقلاً غير مرتبط بعلته أعني الوجود الحق كان معدوماً لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئاً مذكوراً، وقول العلامة البيضاوي: لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف، فمنهم من يجعل قوله: لو استقريت الخ تتمة لتفسيره الأول، ومنهم من يجعله وجهاً آخر، وهو على الأول أخذ بالحاصل، وعلى الثاني قيل: يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافاً حقيقياً بأن يكون الوجود زائداً عليها قائماً بها، وهو مذهب جمهور الحكماء. والمتكلمين، وإما موجودة مجازاً وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائماً بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء. والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجوداً أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره فالله نور السموات والأرض والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشؤونات متعددة وتجليات متجددة {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91] والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين. ووجه التطبيق على الأول أن يقال: المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوه بالغير إذ الممكن وإن كان موجوداً حقيقة عند الجمهور لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئاً آخر من الجهات والوجوه كالإمكان. والمعلولية. والجوهرية. والعرضية. والبساطة. والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلاً منها جهته الخسة، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن لوجوب الذاتي المنافية له، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوباً وإن كان بالغير، ولذا يعقبه فيضان الوجود، ولذا تسمعهم يقولون: الممكن ما لم يجب لم يوجد. ووجه التطبيق على الثاني أن يقال: الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازاً، فالمعنى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازاً إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهراً له سبحانه، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال: المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شؤونات واعتبارات له تعالى. فالمعنى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيساً إليه عز وجل، وهو كونه شأناً من شؤونه واعتباراً من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعيناً بالله عز وجل. {ذُو الجلال والإكرام} أي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ماله سحبانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز وجل أو الذي يقال في شأنه: ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم، وفسر بعض المحققين {الجلال} بالاستغناء المطلق {والإكرام} بالفضل التام وهذا ظاهر، ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها، ثم ألحق بالحقيقة، ولذا قال الجوهري: عظمة الشيء الاستغناء عن غيره وكل محتاج حقير، وقال الكرماني: إنه تعالى له صفات عدمية مثل {لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 163] وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجَلّ عن كذا جل عن كذا وصفات وجودية كالحياة. والعلم وتسمى صفات الإكرام، وفيه تأمل. والظاهر أن {ذُو} صفة للوجه، ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء {مَنْ عَلَيْهَا} لا يخل بشأنه عز وجل لأنه الغني المطلق، والإشارة إلى أنه تعالى بعد فنائهم يفيض على الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة، ووصف الوجه بما وصف يبعد كونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفاً وكأن من يقول بذلك يقول: {ذُو} خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له، ثم قطعت عن التبعية، ويؤَده قراءة أبيّ. وعبد الله ذي الجلال بالياء على أنه صفة تابعة للرب، وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز وجل ولم يستعمل في غيره، فهو من أجلّ أوصافه سبحانه، ويشهد له ما رواه الترمذي عن أنس. والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعاً «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموه وأثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم، وروى الترمذي. وأبو داود. والنسائي عن أنس «أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال صلى الله عليه وسلم: لأصحابه أتدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى».
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء، والحياة الأبدية، والإثابة بالنعمة السرمدية، وقال الطيبي: المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجلّ النعم، ولذلك خص {الجلال والإكرام} بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب، والتحذير من مثل نعمة، فلذا رتبت عليها بالفاء قوله تعالى: {فَبِأَىّ الاء} الخ، وليس بذاك.
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} {العالمون خَلَقَ الله السموات والارض} قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثاً وبقاءاً وفي سائر أحوالهم سؤالاً مستمراً بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلاً فهم في كل آن سائلون. وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن أبي صالح {يَسْأَلُهُ مَن فِى السموات} الرحمة، ومن في «الأرض» المغفرة والرزق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج {يَسْأَلُهُ} الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة. وأهل الأرض يسألونهما جميعاً وما تقدم أولى. ولا دليل على التخصيص. والظاهر أن الجملة استئناف. وقيل: هي حال من الوجه والعامل فيها {يبقى} [الرحمن: 27] أي هو سبحانه دائم في هذه الحال، ولا يخفى حاله على ذي تمييز {والارض كُلَّ يَوْمٍ} كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات. {هُوَ فِى شَأْنٍ} من الشؤون التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصاً، ويفنى آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة، وأخرج البخاري في «تاريخه». وابن ماجه. وابن حبان. وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: " من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين " زاد البزار " *ويجيب داعياً " وقيل: إن لله تعالى في كل يوم ثلاث عساكر. عسكر من الاصلاب إلى الأرحام. وعسكر من الأرحام إلى الدنيا. وعسكر من الدنيا إلى القبور، والظاهر أن المراد بيان كثرة شؤونه تعالى في الدنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا. وقال ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء. وثانيهما: اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب، وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئاً فرد عز وجل عليهم بذلك، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، وانتصب {السماوات والارض كُلَّ يَوْمٍ} على الظرف، والعامل فيه هو العامل في قوله تعلى: {فِى شَأْنٍ}، و{هُوَ} ثابت المحذوف: فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حيناً فحيناً.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31)} {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} الفراغ في اللعنة يقتضي سابقة شغل. والفراغ للشيء يقتضي لاحقيته أيضاً، والله سبحانه لا يشغله شأن عنشأن فجعل انتهاء الشؤون المشار إليها بقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ شَأْنٍ} [الرحمن: 29] يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغاً لهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال: فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء وأخذه تعالى في جزائهم فحسب بحال من فرغ له، وجازت الاستعارة التصريحية التبعية في {سَنَفْرُغُ} بأن يكون المراد سنأخذ في جزائكم فقط الاشتراك الأخذ في الجزاء فقط، والفراغ عن جميع المهام إلى واحد في أن المعنى به ذلك الواحد، وقيل: المراد التوفر في الانتقام والنكاية، وذلك أن الفراغ للشيء يستعمل في التهديد كثيراً كأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبق له شغل غيره فيدل على التوفر المذكور، وهو كناية فيمن يصح عليه، ومجاز في غير كالذي نحن فيه، ولعل مراد ابن عباس. والضحاك بقولهما كما أخرج ابن جرير عنهما هذا وعيد من الله تعالى لعباده ما ذكر، والخطاب عليه قيل: للمجرمين، وتعقب بأن النداء الآتي يأباه، نعم المقصود بالتهديد هم، وقيل: لا مانع من تهديد الجميع، ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يوم القيامة، وقول ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك توعداً بعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه، وقيل: إن فرغ يكون بمعنى قصد، واستدل عليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير: ألان وقد (فرغت) إلى نمير *** فهذا حين كنت لهم عذاباً أي قصدت، وأنشد النحاس: فرغت إلى العبد المقيد في الحجل *** وفي الحديث «لأتفرغن لك يا خبيث» قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً به أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك، ونقل هذا عن الخليل. والكسائي. والفراء، والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك، فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقاً تنجيزياً بجزائهم، وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو حيوة. وزيد بن علي سيفرغ بياء الغيبة، وقرأ قتادة. والأعرج {سَنَفْرُغُ} بنون العظمة. وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها وهو لغة تميم كما أن {سَنَفْرُغُ} في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز، وقرأ أبو السمال. وعيسى {سَنَفْرُغُ} بكسر النون وفتح الراء وهي على ما قال أبو حاتم لغة سفلى مضر، وقرأ الأعمش. وأبو حيوة بخلاف عنهما. وابن أبي عبلة. والزعفراني سيفرغ بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول؛ وقرأ عيسى أيضاً {سَنَفْرُغُ} بفتح النون وكسر الراء، والأعرج أيضاً سيفرغ بفتح الياء والراء وهي لغة، وقرىء سأفرغ بهمزة المتكلم وحده، وقرأ أبيّ {سَنَفْرُغُ} إليكم عداه بإلى فقيل: للحمل على القصد، أو لتضمينه معناه أي {سَنَفْرُغُ} قاصدين إليكم. {أَيُّهَ الثقلان} هما الإنس والجن من ثقل الدابة وهو ما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والإنس والجن ثقلاها، وما سواهما على هذا كالعلاوة، وقال غير واحد: سميا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شأنهما. ويقال لكل عظيم القدر مما يتنافس فيه: ثقل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» وقيل: سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف، وعن الحسن لثقلهما بالذنوب.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب.
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)} {يامعشر الجن والإنس} هما الثقلان خوطبا باسم جنسيهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه وكأنه لما ذكر سبحانه أنه مجاز للعباد لا محالة عقب عز وجل ذلك ببيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه إذا أراده فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس} {إِنِ استطعتم} إن قدرتم، وأصل الاستطاعة طلب طواعية الفعل وتأتيه. {أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والارض} أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله تعالى فارين من قضائه سبحانه: {فانفذوا} فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابه عز وجل، والأمر للتعجيز {لاَ تَنفُذُونَ} لا تقدرون على النفوذ {إِلاَّ بسلطان} أي بقوة وقهر وأنتم عن ذلك بمعزل وألف ألف منزل، روى أن الملائكة عليهم السلام ينزلون يوم القيامة فيحيطون بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به، وقيل: هذا أمر يكون في الدنيا، قال الضحاك: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ونزلت الملائكة فتهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة وذلك قبيل قيام الساعة، وقيل: المراد إن استطعتم الفرار من الموت ففروا، وقيل: المعنى إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السموات والأرض فانفذوا لتعلموا لكن {لاَ تَنفُذُونَ} ولا تعلمون إلا ببينة وحجة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم، وروى ما يقاربه عن ابن عباس والأنسب بالمقام لا يخفى. وقرأ زيد بن علي إن استطعتما رعاية للنوعين وإن كان تحت كل أفراد كثيرة والجمع لرعاية تلك الكثرة وقد جاء كل في الفصيح نحو قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة، وقيل: على الوجه الأخير فيما تقدم أي مما نصب سبحانه من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السموات العلا {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما.
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)} {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما {شُوَاظٌ} هو اللهب الخالص كما روى عن ابن عباس، وأنشد عليه أبو حيان قول حسان: هجوتك فاختضعت لنا بذل *** بقافية تأجج (كالشواظ)} وقيل: اللهب المختلط بالدخان، وقال مجاهد: اللهب الأحمر المنقطع، وقيل: اللهب الأخضر، وقال الضحاك: الدخان الذي يخرج من اللهب، وقيل: هو النار والدخان جميعاً، وقرأ عيسى. وابن كثير. وشبل {شُوَاظٌ} بكسر الشين {مّن نَّارٍ} متعلق بيرسل أو يمضمر هو صفة لشواظ و{مِنْ} ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم {وَنُحَاسٌ} هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشد له قول الأعشى، أو النابغة الجعدي: تضيء كضوء السراج السلي *** ط لم يجعل الله فيه (نحاسا)} وروي عنه أيضاً، وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤوسكما صفر مذاب، والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال: وذلك لشبهه في اللون بالنحاس، وقرأ ابن أبي إسحق. والنخعي. وابن كثير. وأبو عمرو {وَنُحَاسٌ} بالجر على أنه عطف على نار، وقيل: على {شُوَاظٌ} وجر للجوار فلا تغفل. وقرأ الكلبي. وطلحة. ومجاهد بالجر أيضاً لكنهم كسروا النون وهو لغة فيه، وقرأ ابن جبير ونحس كما تقول يوم نحس، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة. وابن أبي إسحق أيضاً ونحس مضارعاً، وماضيه حسه أي قتله أي ونقتل بالعذاب، وعن ابن أبي إسحق أيضاً ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير. وحنظلة بن عثمان ونحس بفتح النون وكسر السين، والحسن. وإسمعيل ونحس بضمتين والكسر، وهو جمع نحاس كلحاف ولحف، وقرأ زيد بن علي نرسل بالنون شواظاً بالنصب ونحاساً كذلك عطفاً على شواظاً {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} فلا تمتنعان وهذا عند الضحاك في الدنيا أيضاً. أخرج ابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية: تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القدرة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا، وقال في البحر: المراد تعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار من عداد الآلاء.
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)} {فَإِذَا انشقت السماء} أي انصدعت يوم القيامة، وحديث امتناع الخرق حديث خرافة، ومثله ما يقوله أهل الهيئة اليوم في السماء على أن الانشقاق فيها على زعمهم أيضاً متصور {فَكَانَتْ وَرْدَةً} أي كالوردة في الحمرة، والمراد بها النور المعروف قاله الزجاج. وقتادة، وقال ابن عباس. وأبو صالح: كانت مثل لون الفرس الورد، والظاهر أن مرادهما كانت حمراء. وقال الفراء: أريد لون الفرس الورد يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحمرة، وفي اشتداد البرد إلى الحمرة فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل، وروي هذا عن الكلبي أيضاً، وقال أبو الجوزاء: {وَرْدَةً} صفراء والمعول عليه إرادة الحمرة، ونصب {وَرْدَةً} على أنه خبر كان، وفي الكلام تشبيه بليغ، وقرأ عبيد بن عمير {وَرْدَةً} بالرفع على أن كان تامة أي فحصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد لأنه بمعنى كانت منها، أو فيها سماء وردة مع أن المقصود أنها نفسها كذلك فهو كقول قتادة بن مسلمة: فلئن بقيت لأرحلن بغزوة *** نحو المغانم أو يموت كريم حيث عني بالكريم نفسه، وقوله تعالى: {كالدهان} خبر ثان لكانت أو نعت لوردة أو حال من اسم كانت على رأي من أجازه أي كدهن الزيت كما قال تعالى: {كالمهل} [الكهف: 29] وهو دردي الزيت، وهو إما جمع دهن كقرط وقراط، أو اسم لما يدهن به كالحزام والادام، وعليه قوله في وصف عينين كثيرتي التذارف: كأنهما مزادتا متعجل *** فريان لما تدهنا (بدهان)} وهو الدهن أيضاً إلا أنه أخص لأنه الدهن باعتبار إشرابه الشيء، ووجه الشبه الذوبان وهو في السماء على ما قيل من حرارة جهنم وكذا الحمرة، وقيل: اللمعان، وقال الحسن: أي كالدهان المختلفة لأنه تتلون ألوانا؛ وقال ابن عباس: الدهان الأديم الأحمر؛ ومنه قول الأعشى: وأجرد من كرام الخيل طرف *** كأن على شواكله (دهانا)} وهو مفرد، أو جمع، واستدل للثاني بقوله: تبعن (الدهان)} الحمر كل عشية *** بموسم بدر أو بسوق عكاظ وإذا شرطية جوابها مقدر أي كان ما كان مما لا تطيقه قوة البيان، أو وجدت أمراً هائلاً، أو رأيت ما يذهل الناظرين وهو الناصب لإذا، ولهذا كان مفرعاً ومسبباً عما قبله لأن في إرسال الشواظ ما هو سبب لحدوث أمر هائل، أو رؤيته في ذلك الوقت.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإن الأخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أيّ لطف ونعمة أيّ نعمة.
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} {فَيَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ما ذكر {لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} لأنهم يعرفون بسيماهم وهذا في موقف، وما دل على السؤال من نحو قوله تعالى: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] في موقف آخر قاله عكرمة. وقتادة وموقف السؤال على ما قيل: عند الحساب، وترك السؤال عند الخروج من القبور، وقال ابن عباس: حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير، وحيث نفي استخبار محض عن الذنب، وقيل: المنفي هو السؤال عن الذنب نفسه والمثبت هو السؤال عن الباعث عليه، وأنت تعلم أن في الآيات ما يدل على السؤال عن نفس الذنب. وحكى الطبرسي عن الرضا رضي الله تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه، ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك، وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى، وضمير ذنبه للإنس وهو متقدم رتبة لأنه نائب عن الفاعل، وإفراده باعتبار اللفظ، وقيل: لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل: لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جنى، وقرأ الحسن. وعمرو بن عبيد ولا جأن بالهمزة فراراً من التفاء الساكنين وإن كان على حدّه
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} يقال فيه نحو ما سمعت في سابقه.
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} {يُعْرَفُ المجرمون} استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال، و{كَرِهَ المجرمون} قيل: من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهو المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى: {لاَّ يُسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78]، وسيماهم على ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون، وقيل: ما يعلوهم من الكآبة والحزن، وجوز أن تكون أموراً أخر كالعمى. والبكم. والصمم. وقرأ حماد بن سليمان بسيمائهم. {فَيُؤْخَذُ بالنواصى} جمع ناصية وهي مقدم الرأس {والاقدام} جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة، والجار والمجرور نائب الفاعل، وقال أبو حيان: إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدي بها أي فيسحب بالنواصي الخ، وفيه بحث. وظاهر كلام غير واحد أن أل عوض عن المضاف إليه الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم، ونص عليه أبو حيان فقال: أل فيهما عوض عن الضمير على مذهب الكوفيين، والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم، وأنت تعلم أن الخلاف بين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضمير للربط ولا احتياج إليه هنا، نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره ثم بكسر ظهره ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحباً بالناصية وبعضهم سحباً بالقدم، وقيل: تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذ النواصي وتارة بأخذ الأقدام، قالوا بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر، وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين، وقيل: للرمز إلى عظمته فقد أخرج ابن مردويه. والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والإقدام»
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} يقال فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى:
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)} {هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} مقول قول مقدر معطوف على قوله تعالى: {يُؤْخَذْ} [الرحمن: 41] الخ أي ويقال هذه الخ. أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع، أو حال من أصحاب النواصي بناءاً على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم، وما في البين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل {التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} التي كذبتم بها فعدل عنه لما ذكر للدلالة على استمرار ذلك وبيان لوجه توبيخهم وعلته.
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44)} {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا} أي يترددون بين نارها {وَبَيْنَ حَمِيمٍ} ماء حار {ءانٍ} متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها، قال قتادة: الحميم يغلي منذ خلق الله تعالى جهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم، وقيل: يحرقون في النار ويصب على رؤوسهم الحميم، وقيل: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم، وقيل: يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم لخقاً جديداً، وعن الحسن أنه قال: {حَمِيمٍ ءانٍ} النحاس انتهى حره، وقيل: {ءانٍ} حاضر. وقرأ السلمي يطافون، والأعمش. وطلحة. وابن مقسم {يَطُوفُونَ} بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، وقرىء {يَطُوفُونَ} أي يتطوفون.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} هو أيضاً كما تقدم.
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} الخ شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة، و{مَّقَامِ} مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي {وَلِمَنْ خَافَ} قيام ربه وكونه مهيمناً عليه مراقباً له حافظاً لأحواله، فالقيام هنا مثله في قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] وهذا مروى عن مجاهد. وقتادة، أو هو اسم مكان، والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب، والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز وجل وحده فيه بحسب نفس الأمر، والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه: {يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} [المطففين: 6] منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه، وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسة وليس بشيء، وقيل: المعنى {وَلِمَنْ خَافَ} مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه، وإضافته للرب لأنه عنده تعالى فهي مثلها في قولهم: شاة رقود الحلب، وهي بمعنى عند عند الكوفيين أي رقود عند الحلب، وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضاً، ثم إن المراد بالعندية هنا مما لا يخفى، وجوّز أن يكون مقحماً على سبيل الكناية، فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ، ومثله قول الشماخ: ذعرت به القطا ونفيت عنه *** (مقام الذئب) كالرجل اللعين وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف، والظاهر أن المراد ولكل فرد فرد من الخائفين: {جَنَّتَانِ} فقيل: إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه، وإليه ذهب الجبائي، وقيل: بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته، وأين هذا ممن يطوف بين النار، وبين حميم آن؟؟. وجوز أن يقال: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو إحداهما روحانية والأخرى جسمانية، ولا يخفى أن الصفات الآتية ظاهرة في الجسمانية. وقال مقاتل: جنة عدن وجنة نعيم، وقيل: المراد لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، وهذا عندي خلاف الظاهر، وفي الآثار ما يبعده، فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجد والعبادة فعشقته جارية فأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلك فشهق شهقة فغشى عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال: يا عم انطلق إلى عمر فاقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق فأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخرى فمات فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: لك جنتان لك جنتان. والخوف في الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب: والخوف من الله تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات، ولذلك قيل: لا يعد خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته. وقول مجاهد: هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع الذنب، والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم، وقد يقال: إن ارتكاب الذنب قد يجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفاً من عقابه تعالى عليه، وأيد ذلك بما أخرجه أحمد. والنسائي. والطبراني. والحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وابن أبي شيبة. وجماعة عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الثانية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زني وإن سرق؟ فقال الثالثة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإنْ رغم أنف أبي الدرداء» وأخرج الطبراني. وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال: سمعت محمد بن سعد يقرأ ولمن خاف مقام ربه جنتان وإن زنى وإن سرق فقلت: ليس فيه وإن زنى وإن سرق فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلك حتى أموت، وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل. وجاء من شأن هاتين الجنتين من حديث عياض بن غنم مرفوعاً «إن عرض كل واحدة منهما مسيرة مائة عام» والآية على ما روي عن ابن الزبير. وابن شوذب نزلت في أبي بكر. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر ذات يوم وفكر في القيامة. والموازين. والجنة. والنار. وصفوف الملائكة. وطي السموات. ونسف الجبال وتكوير الشمس. وانتثار الكواكب فقال: وددت أني كنت خضراً من هذه الخضر تأتي على بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ}.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيهاً على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ مقدر أي هما ذواتاً، وأياً مّا كان فهو تثنية ذات بمعنى صاحبة فإنه إذا ثنى فيه لغتان ذاتاً على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا، والأخرى {ذَوَاتَا} برده إلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إل أصولها، وقد قالوا: أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفاً؛ وفرقا بين الواحد والجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنية الجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل، والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتاً أنواع من الأشجار والثمار، وروي ذلك عن ابن عباس. وابن جبير. والضحاك، وعليه قول الشاعر: ومن كل (أفنان) اللذاذة والصبا *** لهوت به والعيش أخضر ناضر وإما جمع فنن وهو ما دق ولأن من الأغصان كما قال ابن الجوزي، وقد يفسر بالغصن، وحمل على التسامح وتخصيصها بالذكر مع أنها ذواتاً قصب وأوراق وثمار أيضاً لأنها هي التي تورق وتثمر. فمنها تمتد الظلال. ومنها تجني الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل: {ذَوَاتَا} ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية وهي أخصر وأبلغ، وتفسيره بالأغصان على أنه جمع غنن مروى عن ابن عباس أيضاً، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد قال أبو حيان: وهو أولى لأن أفعالاً في فعل أكثر منه في فعل بسكوت العين كفن، ويجمع هو على فنون.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأ المقدر أي في كل منهما عين تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسليم، والأخرى بالسلسبيل، وروي هذا عن الحسن، وقال عطية العوفي: {عَيْنَانِ} إخداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، وقيل: {عَيْنَانِ} من الماء {تَجْرِيَانِ} حيث شاء صاحبهما من الأعالي والأسافل من جبل من مسك، وعن ابن عباس {عَيْنَانِ} مثل الدنيا أصعافاً مضاعفة {تَجْرِيَانِ} بالزيادة والكرامة على أهل الجنة.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} صنفان معروف وغريب لم يعرفوه في الدنيا، أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال ابن عباس في هذه الآية: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، ونقل هذا في البحر عن ابن عباس أيضاً بزيادة إلا أنه حلو، والجملة كالجملة التي قبلها.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)} {فَبِأَىّ ءالآء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ} حال من قوله تعالى: {ولمن خاف} [الرحمن: 46] وجمع رعاية للمعنى بعد الافراد رعاية للفظ، وقيل: العامل محذوف أي يتنعمون متكئين، وقيل: مفعول به بتقدير أعني، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب، والمعنى متكئين في منازلهم {عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} من ديباج ثخين قال ابن مسعود كما رواه عنه جمع. وصححه الحاكم أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر، وقيل: ظهائرها من سندس، وعن ابن جبير من نور جامد، وفي حديث من نور يتلألأ وهو إن صح وقف عنده. وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أنه قيل له: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} فماذا الظواهر؟ قال: ذلك مما قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُوَّةَ أَعْيُنِ} [السجدة: 17] وقال الحسن: البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة وقال الفراء: قد تكون البطانة الظاهرة والظاهرة البطانة لأن كلاً منهما يكون وجهاً والعرب تقول: هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء، والحق أن البطائن هنا مقابل الظهائر على الوجه المعروف، وقرأ أبو حيوة {فُرُشٍ} بسكون الراء، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: قرأ عبد الله على {سُرُرٍ وَفُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} {وَجَنَى الجنتين} أي ما يجني ويؤخذ من أشجارهما من الثمار، فجنى اسم أو صفة مسبهة بمعنى المجنى {دَانٍ} قريب يناله القائم. والقاعد. والمضطجع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله تعالى إن شاء قائماً وإن شاء قاعداً وإن شاء مضطجعاً، وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، وقرأ عيسى {وَجَنَى} بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] وقرىء دوجنى} بكسر الجيم وهو لغة فيه.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ} أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان، وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدم اعتبار الجمعية في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ} [الرحمن: 54] وقال الفراء: الضمير لجنتان، والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعدما سمعت، وقيل: الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر، وقيل: يعود على الفرش، قال أبو حيان: وهذا قول حسن قريب المأخذ، وتعقب بأن المناسب للفرش على، وأجيب بأنه شبه تمكهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثاره للاشعاء بأن أكثر حالهن الاستقرار عليها، ويجوز أن يقال: الظرفية للاشارة إلى أن الفرش إذا جلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه، وقيل: الضمير للآلاء المعدودة من الجنتين. والعينين. والفاكهة والفرش. والجنى والمراد معهن {قاصرات الطرف} أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن، قال ابن رشيق في قول امرىء القيس: من (القاصرات الطرف) لو (دب محول *** من الذر فوق الأنف منها لأثرا) أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغير زوجها، ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتنبي: وخصر تثبت الأبصار فيه *** كأن عليه من حدق نطاقاً انتهى فلا تغفل، والأكثرون على أول المعنيين اللذين ذكرناهما بل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي. أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك «لا ينظرن إلا إلى أزواجهن» ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه، وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي، و{الطرف} في الأصل مصدر فلذلك وحد {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} قال ابن عباس: لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، وفيه إشارة إلى أن ضمير قبلهن للأزواج، ويدل عليه {قاصرات الطرف} وفي البحر هو عائد على من عاد عليه الضمير في {مُتَّكِئِينَ} [الرحمن: 54]، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، وقيل: ثم عمم لكل جماع، وهو المروى هنا عن عكرمة، وإلى الأول ذهب الكثير، وقيل: إن التعبير به للاشارة إلى أنهن يوجدن أبكاراً كلما جومعن، ونفي طمثهن عن الأنس ظاهر، وأما عن الجن فقال مجاهد. والحسن: قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج اسم الله تعالى فنفي هنا جميع المجامعين وقيل: لا حاجة إلى ذلك إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم، ولا شك في إمكان جماع الجنى إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن دواد الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن ههنا رجلاً من الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأساً في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل: من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام، ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعاً حقيقياً مع أزواجهن إذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء، وقوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِى الاموال والاولاد} [الإسراء: 64] غير نص في المراد كما لا يخفى، وقال ضمرة بن حبيب: الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم، فالمعنى لم يطمث الانسيات أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور. ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الانسيات، ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حوراً للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات، وحوراً للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعاً واحداً ويعطي الجنى منهن لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة، ويقال: ما يعطاه الانسى منهن لم يطمثها إنسي قبله، وما يعطاه الجنى لم يطمثها جنى قبله وبهذا فسر البلخي الآية، وقال الشعبي. والكلبي: تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل، والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا ويعطي غيرها من نسائها المؤمنات أيضاً. وكذا الجنى يعطي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا من الجن ويعطي غيرها من نساء الجن المؤمنات أيضاً، ويبعد أن يعطي الجنى من نساء الدنيا الإنسانيات في الآخرة. والذي يغلب على الظن أن الانسى يعطي من الانسيات والحور والجنى يعطي من الجنيات والحور ولا يعطي إنسى جنية، ولا جنى إنسية وما يعطاه المؤمن إنسياً كان أو جنياً من الحور شيء يليق به وشتهيه نفسه، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال، واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقون فيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف. ومحمد. وابن أبي ليلى. والأوزاعي. وعليه الأكثر كما ذكره العيني في «شرح البخاري» من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون على المعصية، ويدخلون الجنة فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة، وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الأولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا تراباً كسائر الحيوانات، والثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد على دخولها، الثالثة التوقف قال الكردري: وهو في أكثر الروايات، وفي فتاوي أبي إسحق بن الصفار أن الإمام يقول: لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم الله تعالى. ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربض الجنة، وقيل: هم أصحاب الأعراف، وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل: نراهم ولا يرونا عكس ما كانوا عليه في الدنيا، وإليه ذهب الحرث المحاسبي، وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهم في الدنيا، وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل: إن تنعمهم بغير رؤيته عز وجل فإنهم لا يرونه، وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها على ما حكاه أبو إسحق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه، والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله، وقرأ طلحة. وعيسى. وأصحاب عبد الله {يَطْمِثْهُنَّ} بضم الميم هنا وفيما بعد، وقرأ أناس بضمه في الأول وكسره في الثانية. وناس بالعكس. وناس بالتخيير، والجحدري بفتح الميم فيهما، والجملة صفة لقاصرات الطرف لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وقوله تعالى:
{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} إما صفة لقاصرات الطرف، أو حال منها كالتي قبل أي مشبهات بالياقوت والمرجان، وقول النحاس: إن الكاف في موضع رفع على الابتداء ليس بشيء كما لا يخفى، أخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية في صفاء اليافوت وبياض اللؤلؤ، وعن الحسن نحوه، وفي البحر عن قتادة في صفاء الياقوت. وحمرة المرجان فحمل المرجان على ما هو المعروف، وقيل: مشبهات بالياقوت في حمرة الوجه وبالمرجان أي صغار الدر في بياض البشرة وصفائها وتحصيص الصغار على ما في الكشاف لأنه أنصع بياضاً من الكبار، وقيل: يحسن هنا إرادة الكبار كما قيل في معناه لأنه أوفق بقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49] فلا تغفل}. وأخرج أحمد. وابن حبان. والحاكم وصححه. والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {VVV}. وأخرج أحمد. وابن حبان. والحاكم وصححه. والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ} الخ قال: ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوباً ينفذها بصره حتى يوضح سوقها من وراء ذلك. وأخرج عبد بن حميد. والطبراني. والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وقوله تعالى:
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} {هَلْ جَزَاء} استئناف مقرر لمضمون ما قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب، وقيل: المراد ما جزاء التوحيد إلا الجنة وأيد بظواهر كثير من الآثار، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. والبغوي في تفسيره، والديلمي في مسند الفروس. وابن النجار في تاريخه عن أنس قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} فقال: وهل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: يقول: «هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاً بلفظ: " قال الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه " الخ ووراء ذلك أقوال تقرب من مائة قول، واختير العموم ويدخل التوحيد دخولاً أولياً، والصوفية أوردوا الآية في باب الإحسان وفسروه بما في الحديث " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قالوا: فهو اسم يجمع أبواب الحقائق، وقرأ ابن أبي إسحاق إلا الحسان يعني بالحسان قاصرات الطرف اللاتي تقدم ذكرهن.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وقوله تعالى:
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان، قال ابن زيد والأكثرون الأوليان للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين، وقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وقوله سبحانه: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قال: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين» وقال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين، وروي موقوفاً وصححه الحاكم عن أبي موسى، وزعم بعضهم أن الأوليين للخائفين والأخريين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجد له مستنداً من الآثار، وحكي في «البحر» عن ابن عباس أنه قال: {وَمِن دُونِهِمَا} في القرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين، وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وقوله تعالى:
{مُدْهَامَّتَانِ (64)} {مُدْهَامَّتَانِ} صفة لجنتان وسط بينها الاعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذا لم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون، ويقال: إدهام ادهيماماً فهو مدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته، وفسرها هنا ابن عباس. ومجاهد. وابن جبير. وعكرمة. وعطاء بن أبي رباح. وجماعة بخضراوان، بل أخرج الطبراني. وابن مردويه عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} فقال عليه الصلاة والسلام: خضراوان» والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس. وابن الزبير. وأبي صالح قيل: إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعاراً بأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن في وصف السابقتين بذواتا أفنان إشعاراً بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بأنها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالاقتصار في كل منهما على أحد الأمرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لا والجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلى من الجنة القليلة الظلال والثمار، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونه أغلب من وصف الأشجار به فكثيراً ما تسمع الناس يقولون إذا مدحوا بستاناً أشجاره خضر يانعة وهو أظهر في مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان، وهو يشعر أيضاً بكثرة مائه والاعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء على ما هو الظاهر، وفي «البحر» النضخ فوران الماء، وفي «الكشاف». وغيره النضخ أكثر من النضخ بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضل الجنتين الأوليين دون الجري، فالمدح به دون المدح به، وعليه قول البراء بن عازب فيما أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاحتين، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين يقول في الفوران جري مع زيادة حسن فإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطرات كحبات اللؤلؤ المتناثرة كما يشاهد في الفوارات المعروفة، أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن أبي حاتم عن أنس {نَضَّاخَتَانِ} بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا، أو بما أخرجه ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد عن مجاهد {نَضَّاخَتَانِ} بالخير، ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير.
|